الفكر الإسلامي

 

ما تحويه سورة الكهف من إشارات إلى الفتنة الدجالية

الحلقة (29)

 

بقلم : الباحث الإسلامي الكبير الأستاذ السيد مناظر أحسن الكيلاني رحمه الله

أحد كبار علماء جامعة ديوبند ، المتوفى 1375هـ / 1956م

تعريب : الأستاذ محمد عارف جميل القاسمي الأعظمي

 

الكفر بآيات اللّه ولقائه :

     وإنهم يضيعون كل ما يكسبونه ، والواقع ماثل أمامهم جميعًا بخصائصه ، وميزاته الصارخة . ثم يكاد الإنسان يطمئن إلى هذه الحياة الفاشلة الخائبة العقيمة العابثة كلّ العبث . وإن قبضة هذه العقلية الغريبة لاتزال توسع حلقتها يومًا فيومًا . وليس البشر حيوانًا فيعيش غافلاً عن مصيره وعاقبته . إذاً لماذا يشتدّ تأثير هذه العقلية ، وضغطتها رغم هذا العقل والتمييز ؟ أرىٰ أننا لانعجز أن نستوحي الردّ على هذا السؤال من خلال الآية التالية : (أُوْلـٰـئِكَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِه) .

     ولكي تَكتَنِهَ هذه القضية التي لَفَتَ النصُ السالفُ الأنظارَ إليها دونَك هذا المثال :

     رجلٌ يدّعي أنه بطل مصارع ، وقدّم لك نفسه مزوَّدةً بجيمع عُدَدِ الصُرعة : دَلَكَ جسده بالتراب الأحمر، لبس لباسه ، ونزل في الميدان ، يُرِيْكَ وهو يصرَع خصمه ، ويَهزِمُه .

     بإزاء ذلك رجل آخر يزعم أنه بطل مصارع لبس لباس خلعاء «لكناؤ» (1) ولا يبدو عليه سيما البطل المصارع ثم ينسب إلى نفسه تلك المواهب التي تخصّ المصارع . فقل لي : أيهما تراه أجدر بأن تجعله مجرَّبًا معلومًا ؟!

*  *  *

     ومن خلال هذا المثال تأمّل في الكون : شجره وحجره ، ونباته وجماده ، وحيوانه وإنسانه ، وقمره وشمسه ونجومه وما إلى ذلك من خلق الله المتنوّع الذي تجلّى فيه خالق الكون بخلقه ، ولاَحَ لنا. هذا مظهر من مظاهر الحق . وبإزاء ذلك تميل النفوس إلى أن يتجلى الله تعالى دون هذا الكون وقدرته عليه . أليس يربط بين هذين المظهرين ما يربط بين المصارعين اللذين تمثّل لنا أحدهما بجميع آثار المصارعة وعلاماتها ، بينما يدّعى ثانيهما قدرات المصارع لنفسه . ويقدم شخصه وذاته دون هذه القدرات ، ويطلب منا اعتباره بطلاً مصارعًا .؟!

     فما أغرب أن يبرز لنا الله سبحانه وتعالى ، ويتجلى في مواهبه المتمثلة في خلقه ، ويريد أن نتعرف عليه ، ونؤمن به من خلال هذه المواهب والقدرات التي سمّاها القرآن الكريم بـ«آيات الله». ثم يعلّل البعض عدم إيمانه به بأنه لم يتجلَّ لنا مجردًا عن قدراته ومواهبه . فقل لي : هل هذا غير حجة شيطانية ؟ إن المصارع الذي يتمثل لَكَ في قدرات المصارعة ، فأبيت قبوله مصارعًا بحجة أنك لاترى مصارعًا إلا من برز لك صِفرًا من جميع علامات المصارع وآثاره . فاعلم – علم اليقين – أنك إذا تَلَمّست العقلية الإلحادية العامة فلن تجد غير جرثومة هذه المطالبة الصبيانية غير المنطقية . وعليه نَبّهَ القرآن الكريم قائلاً : (أولـٰـئِكَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا بآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ) .

     أي أنه قد قرّروا ألاّ يتوصلوا – من خلال آيات فضل الله وكماله هذه – إلى الله تعالى ولا يؤمنوا به ، ولا يَدَعُوْا غيرهم ليتوصل إليه ويؤمن به، وبالتالي جزموا بأن فكرة لقاء خالق الكون ، والوقوف بين يديه في الحياة الآخرة خيالٌ محضٌ. وهذا ما يعتقدونه ويودّون أن تتعدى هذه العقلية الباطلة إلى سواهم ، وينشطون في نشر هذه النزعة وبسط نفوذها .

          والحاصل أنهم اختلقوا هذه الفلسفة غير المنطقية بقوةٍ ، تخلصًا من المسؤوليات التي تفرضها السنة الإلهية . وقلّلوا من تأثير الإله وعقيدته في حياتهم ، ونشاطاتها كلّها . كما يودّون أن يقللوا من هذا التأثير في غيرهم ما وسعهم ذلك حتى إنهم لايأتون من الأعمال التي تُرضى الله تعالى إلا انطلاقًا من أنهم لايبتغون بها وجه الله . فلا يخطون خطوةً في مرضات الله ولاهم يرغبون في ذلك.(2)

     ولا يخفىٰ أنه إذاكان الله تعالى لا يقيم لهم ولا لأعمالهم وزنًا فما ذا عسى أن يترتب على مثل هذه الحياة الملحدة، ونشاطاتها من نتيجة منطقية غير ذلك.

     إنك لو أنفقت عشرات الملايين ، وضحيت بما ملكت يمينك ، أو لم تنفق إلا نفقةً صغيرةً فإنما الملحوظ في الحالين : لِمَ أنفقتَ ما أنفقتَ ؟ فإن أنفقت – ولو نفقةً صغيرةً – تبتغي بها وجه الله فَارْجُ من الله أجرها وثوابها . وأما لو أنفقت عشرات الملايين لا تبتغي بها وجه الله فقل لي: ما الذي يجعلك تستحق أو يمكن أن تستحق ثوابًا من الله تعالى ؟ فإذا ما تمثلت لك نتيجتها الطبيعية المتمثلة في : (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) فما ذا عسى أن تحدث نفسك بغير ذلك ؟ وهذا ما دلّ عليه النص القرآني .

     فالحق أن العمل لايحمل قيمةً بذاته ، وإنما يقام له الوزن نظرًا إلى : فِيمَ عمله ؟ ومن المعروف أن من لَطَمَ اليتيم لطمةً تؤد به ، أجِرَ عليها وعُدّ ناصحًا له ومخلصًا . وأما من سقىٰ اليتيم ، وأطعمه وألبَسَه ليُفسِده فإنه يعدّ جريمةً شنعاءَ . فقوله : (فَلاَ نُقِيْمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) عقب قوله : (فَحَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ) يعني – فيما يعني – أن حياةً لم تستهدف وجه الله تعالى ، تعود عديمة القيمة ، فاقدة الوزن. وَتَوَصَّلْ إلى حقيقة الوزن وفق الدراسات الحاضرة إن شئت . ولِمَ يخفِّ أو يزداد الأشياء وزنًا في الدنيا؟ ثم انظر هل تبقى أو يمكن أن تبقىٰ أوزان الأشياء – مهما بلغ ثقلها – عندما يخرج عن نطاق وجوده المركزي؟(2)

     وتابِع قراءتك ، وقبل أن نقدم لك الآية ، دونك ما يلي :

     إن من غابَ أو أقصِيَ عن أنظاره فكرة استخدام فضله وكماله – مما نشاهده مسجلاً في الصحيفة الإلهية – كآية على ذاته سبحانه وتعالى ، إنه – كما لا يخفى – لا يرغب في البحث عن تلك الذات المتصفة بالسمات القدسية ، كما لا يبقى فيه الحرقة على إدراك مرضاته . وأصدقك أن هذا الاضطراب كله يحمل في طياته تلك الفكرة الآياتية التي عبّر عنها الشاعر الفارسي بما معناه :

     «ما من رسم أو صورة إلا أرىٰ فيه رسَّامه ونقّاشه» .

     التي يتوصل بها من يتوصل – من خلال هذا الكون العامر بمظاهر الكمال والفضل إلى الذات المتصفة بالكمال والفضل ، ويصيح بما قاله الشاعر الفارسي ما معناه :

     «وإن لم تنظر العين الوراء الفاسدة ، فإني أرىٰ رؤية لا غبار فيها» .

     مما صرّح به القرآن الكريم فيما يأتي مشيرًا إلى مَن فَقَدَ أو حُرِم هذا الشعور المقدس من الوجدان اللاهوتي أو الحصيلة السبوحية قائلاً : (ذٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوْا وَاتَّخَذُوْا آيَاتِيْ وَرُسُلِيْ هُزُوًا) لنتأمل : ماذا أن يكون أو يمكن أن يكون مصيرهم غير ذلك .

     إن ملكاً من الملوك برز لنا بكل ما يختصّ بالملك : تاجه وأريكته ، وسيفه وجواهره ، وهيئته وإكليله ، وخدمه وحواشيه ثم يأبا يختصّ بالملك : تاجه وأريكته ، وسيفه وجواهره ، وهيئته ولنتأمل : ماذا أن يكون أو يمكن أن يكون مصيرهىٰ مَن يأبىٰ قبول أوامر هذا الملك ورُسُلِه ، مُتعلِّلاً بأن الملك لم يتجلَّ لَنا مجردًا عن الأجهزة الملكية . وأتساءل : إن الذين خرجوا على الملك بهذه الحجة الداحضة إذا ما وجدوا أنفسهم قد تعرضت لبطشه وعذابه ، فما ذا عسى أن يرجوا غير ذلك .

     وإني ليأخذني العجب والحيرة من أن يتمثل لنا خطاط بارع ، قد غُطِّيَ من رأسه إلى أخمص قدميه بأوراقٍ مُزدانةً بمواهبهِ الخطيّة ، وعامرةً بها . فهل من مغالطةٍ سافهةٍ أو تحكمٍ أشنع من أن نقول : إن الخطاط لم يتمثل لنا ، وإنما عرض علينا خطّه ؟

     وعلى كلٍ ، فهولاء المغالِطين سيواجهون – ولابد أن يواجهوا – مغبة أعمالهم من الله تعالى . وإذاً لِنَدَعْهمْ ومصيرهم الجهنميّ هذا ، ونتأمل في الشطر الأخير من هذه الفقرة ، وهو قوله تعالى: (واتَّخذُوْا آيَاتِيْ وَرُسُلِيْ هُزُوًا) فتبرز لنا علامة أخرىٰ جديدة تساعدنا كثيرًا – على التعرف على هذا الحزب المعين والتوصل إليه .

     والحاصل أنه قد مرّ بك معنىً من معاني كلمة «الآيات» أي أن الله تعالى أبدىٰ فضله وكماله في صحيفة قدرته ، وصفحات كونه ، وجعل الكون وآثاره ، علامةً وآيةً على ذاته المقدسة . وهذا إطلاق من إطلاقات القرآن لكلمة «الآيات» . كما أن هذه الكلمة تطلق على مظاهره الكلامية التي أبدىٰ فيها سبحانه وتعالى مرضاته ورضوانه . فكلاهما من المصطلحات والتعبيرات القرآنية فالحق أن صحيفة قدرته ، والصحيفة القرآنية آياتُ كلٍ منهما آيات .

     وأسلفت أن من غاب عنه فكرة استخدام آيات صحيفة قدرته على أنها آيات خَمَدَ في قلبه الرغبة في لقاء ربه تعالى . وبالتالي يُسلَب الحرصَ على تلمس مرضات ربه القيوم . ثم لا يقدُر قدر الصالحين الذين يختارهم الله تعالى لبيان رضوانه ، ممن نعرفهم بـ «الرسل والأنبياء» - صلوات الله عليهم وسلامه - فتَخرج أو تُسَلّ من قلوبهم أهمية الرسالة ، والكلام الذي خاطب به عبادَه خالقُهم على ألسنة الأنبياء والرسل . وإن هذا الوضع النفسي اللعين من التدهور العقلي ، والتخلف الفكري يصل إلى مرحلة من الظلام الداخلي والشقاء الذي يعود فيه الرصيد الإبليسي الأكبر من الحكمة والعلم والعز والكبرياء مجرد استهزاء بآيات الله ، وتهكمًا بالرسل الذين يبلغونها .

     وهذا هو المصير النهائي بل النتيجة الحتمية التي أدّىٰ إليها الحرمانُ من فكرة استخدام الكون على أنه آية من آيات خالقه القيوم ، نتيجة حتمية تنشق منهم عفونتها وقذارتها في هذه الحياة الدنيا قبل موتهم . وبهذه العفونة تعرفهم كلُ الأزقة والزوايا . كما أنهم يعرّفون أنفسهم بهذه العضونة، والبخار الكريه . ويعود هذا الاستهزاء منطقَهم ، وهذا التهكُّمُ فلسفتَهم . ويصبح كنيف هذا الاستهزاء بالدين جزءًا لا يتجزىٰ من كتاباتهم وخطاباتهم ، ورسائلهم وصحفهم ، وقصصهم وأسمارهم ، وحتى من مسارحهم وملاهيهم . كما أنه علامتهم النهائية ، وميزتهم التي تنتهي بها الإشارات القرآنية التي تخصّهم .

     فعلينا أن نتعرف من خلال هذه الآيات والعلامات القرآنية على الذين سمّتهم الأديان والملل بـ «يأجوج ومأجوج» أو بما يماثله من الأسماء، وحذّرت الناس منهم . ويجب أن نولي – كما أسلفت – ميزاتهم وخصائصهم أهميةً أكبر من أعيانهم وذواتهم ممن جعلته صُحف الرسل والأنبياء فتنةً كبيرة غير عادية من الفتن التي تفتن المرء عن دينه ، ولا أقل من أن الحجة قد تمَّتْ على أمةٍ تؤمن بالقرآن كتابَ الله تعالى . وإن ما يفيده البينات والتصريحات القرآنية السالفة لايسع أحدً أدركها أن يقول : إنه غاب عنه قيمة الطاقات ، والقوى الإنسانية في طيات تراب العواصف الفكرية ، والنزاعات العقلية التي آثارها فتنة «اليأجوجية والمأجوجية» ؛ فإنه لايَدعُ لهذا العذر مجالاً ومسوِّغًا.

*  *  *

الهوامش :

(1)     لكناؤ (Lucknow) : مدينة في شمال الهند على نهر الغانج ، عاصمة ولاية أترابراديش تأسست في القرن السادس عشر على أنقاض مدينة «لاخمبور» . كانت عاصمة مملكة أودهـ الشيعية . امتازت بصفاء حضارتها الإسلامية ، احتلّها الإنجليز 1857. مركز تجاري وصناعي : حبوب ، وسكر، ونسيج . متحف شهير للعصور القديمة 1863 . (راجع : المنجد ص 613)

(2)          حين كانت هذه هي عقلية من أعجِبَ بهم ، وسبق أحد حكينا عن أحدهم قوله :

«إنما نقرّ عينًا ، ونثلج فؤادًا ذلك اليوم الذي تعمل فيه أمتنا لأمتنا ، لا تبغي به وجه الله ، ولا تريد لها جزاءً ولاشكورًا ، وتقول بملء فمها : إنها لا تريد أن تشتري بيدها ورجلها ونفسها وسعيها ومالِها وجهَ الله ، ولا جنبته . (تهذيب الأخلاق 2/521) .

وأسلفنا أن هذا ما قاله أحد المسلمين الهنود ، وهو السر سيد أحمد خان ، المنتمي إلى العائلة النبوية وهل يسع أحدًا يقول : إنه قال ما قال لا يبغي به وجه الله . وإنه قد لقي ربه ، ولقي مصيره . فلكل امرئٍ ما نوىٰ . وغفر الله له .

(3)     وكثيرًا ما يطلق الناس : من ثقلت كفة حسناته نجا ، ومن ثقلت كفة سيئاته هلك . بيد أن القرآن الكريم دأب على بيان أنه لا يقام الوزن إلا للأعمال التي تُرضي خالقَ الكون سبحانه وتعالى . وأما ما لا يُرضيه فإنه يتلاشىٰ وزنًا . فنجد قوله : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيْنُه) بإزاء قوله: (فَمَنْ خَفَّت مَوَازِيْنُه) في غير موضع من القرآن الكريم .

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.